
كان لديّ نظرية تقوم على قاعدة تقول إنك تنتمي الى مدينة حقاً عندما تكرهها بكل ارتياح. وأنا حاليا لا أُحبّ بيروت. طبعاً، لا داع لأن تكون معمارياً لتعرف أن بيروت قبيحة، وقد تٌنظّر أمام الأجنبي الغربي عن أن هناك قبحاً معينا يُصبح جميلاً، وذلك كسبيل وحيد لأن تخلق لبيروت طريقا الى النجومية. فينبهر الأجنبي بأن هناك شيئا مختلفا عنه وقابلا للعيش في نفس الوقت. أتكلم عنها كأنها مسخاً، مدينة مُصنّعة مما كان وكيف صار وهذه الأسطوانة التي نُردّدها: “بت يونو بيروت ا ز ان انترستنج سيتي”
والله لا أدري كيف تكون انترستنج بلا مترو ومتاحف ومسارح ومعارض وقوانين تحمي الناس وأحياءً تفخرُ بنفسها لأنها خليط من المهاجرين والوافدين والسكان الأولين!
أردّد ما تَيسّر من الجُمل التي تجعل من بيروت مكاناً مرئياً، فلا أحد يحبّ أن يسكن في أماكن غير مرئية، لا أحد يُحب أن يكون غير مرئي. لكن إن كُنت حقا من مكان، فلا يجب أن تُشغل وقتك في اخترع نظرية تثبت انتمائك اليه. مرّة كنت أصف لأجنبي من الغرب، موقع دكان أبو سمير ودوره بالنسبة للساكنين في الزاروب حيث يقع بيت أمي، وكان مبهورا جدا بما يسمع، فخفت بأن يقوم بفتح دكان في أحد زواريب طريق الجديدة ويخترع طريقة جديدة في الاستشراق. غريب، كيف لا تأتي هذه الأحاديث مع الأجانب الأخرين، لا أفتح حديثاً مع المرأة (العاملة) الأجنبية التي ترعى كلب المستر والمدام- عن بيروت كمكان انترستنج. أفتح احاديثاً أخرى معها، عن أين ضربها المستر، وكيف سنجدد الإقامة، وكيف إني أسفة دائما عما يحصل النيابة عن الأخرين: العائلة. الجيران. الوطن. الأخرين ذاتهم الذين أمام أجنبي أخر، يجعلون المدينة انترستنج.
أه، تذكرت لما بدأت في كتابة النص، منذ قليل كنت في مشوار هام، وسألتني سائقة التكسي إن كنت أحب “الوجود ” في باريس؟ لم يكن سؤالها بداية لأزمة وجودية في رواية ما أو مشهد لفيلم عن عذاب الحبّ أو سؤلاً يرتبط بأي سياق يحتمل أي نوع من العُمق. كان واضحا بإنّي سائحة ولا اعلم شمال المدينة من جنوبها. أجبتها بأني لا أعرف، وسألتها من باب الأدب إن كانت هي تحب باريس، فانفعلت قائلة،” ألاّ تحب المدينة التي تسكن فيها يعني ألاّ تُحب حياتها!!!!
طبعا، يمكن إضافة عدد من علامات التعجب التي لا تُحصى وقد انتشرت في الفراغ بيني وبينها الى أن نزلت من سيارتها. شعرت وكأني أهنتها لا سمح الله، وفعلت شيئا مثل أن أباشر الحديث معها باللغة الإنكليزية والذي يعادل للفرنسيين أن تسبّ لهم أمهم بدل أن تقول لهم صباح الخير. في باريس، عليك دائما أن تعتذر بالفرنسية بأنك لا تجيد اللغة الفرنسية قبل أن تتكلم بالإنكليزية. المهم، وانا في طريق العودة الى البيت، سرت قليلا بشوارع باريس وفكّرت بما قالته السائقة، وكيف يُشكّل مقدمة عن أشياء فهمتها عن بيروت وأنا خارجها. أحاول جاهدة أن أتناسى موعد العودة الى لبنان رغم أني أشتاق بشكل غير طبيعي الى بيتُنا في أعالي الجبال، وقطعة الأرض التي أثمرت كثيرا وكلبتنا المُحبّة والخائفة دائما من غدْر البشر، ومحاولتها الفاشلة بالادعاء إنها كلبة تألف المنازل، نحن نعلم وهي تعلم، بأنها كلبة شارع تعِبت فقط من البهدلة. انتهت المقدمة، وفهمت بيروت وأخيرا كمكان للوحشة، ولهذا لم أعد أحبها، لأني لم أعد أحب الأخرين فيها.
الوحشة في بيروت هي انقطاع وبُعد القلوب عن المودّات[1]، عن تحكم الوضع العام بحياتي، فتصبح حياتي (وحياتكم)شأنا عاماً، وحزن وغضب وخيانات وخيبات متكررة، وجزر اجتماعية تضيق بي. في بيروت، أشعر أني في سباق على المرئية، كأنها الأمر الوحيد الذي يؤكد النجاة. قبل الانفجار كانت المدينة أصلا شديدة الوِحشة، وبعد الانفجار لم تعرف أن تَلين. كثرة المأساة تفعل هذا، تخلق زحمة في الضحايا وكيفما تتحرك هناك جرحاً ما تمسّه، أو تفتحه أو تتواجه مع القيح والعفن المنهمر منه. تضيع الكثير من الأحاديث والأفكار في غرف وساحات عامّة تضج كُلها بالضحايا ومكسوري الخواطر والقلوب، وكُلّ ما يبدو لي أن الساحات اتسعت، كُلما أكتشف أن المساحات ضاقت. في الشأن العام جروحنا تلتصق ببعضها، فتستعر لأنها تخاف، ونخوض العام انطلاقا من الم نتخيّل أنه لا يمكن أن يتعايش مع ألم أناس أخرين. ّ
الوحشة في بيروت كانت مخيفة، لم تكن وحشاً في أزمة منتصف الدّهر يبتلع أجملنا، لم تكن نظاماً سرّق لقمة الخُبز حرفياً من فمنا، لم تكن في حقيقة أن الحرب الأهلية لم تنته رغم أن هناك هاشتج وسبع مقالات تؤكد ذلك، لم تكن الوحشة عودة النظام الأمني- البوليسي، والأمني- الرفاقي. كانت الوحشة سباق المرئية في الثورة، والحاجة لأن يكون هناك من يدير المحادثة ومن يحدد أهميتها وكيف ستدار، عن مثلا كيف ندير الاقتصاد وكيف نفهم المصارف وما هو الحلّ، وما عليّ أن أنتقد وما لا أنتقد. كانت الوحشة وجود مواضيع لا يجب عليّ أن أتكلم عنها أو أكتب عنها، ألا أسأل عن جلّ الديب، ألا أتكلم عن قطبية 8 و 14 آذار تعيد إنتاج نفسها، أن أُصفّق وأن أشتُم وأن أدّعي أنه لا يوجد محرمات في وقتٍ كان كُل شيء محرما.
لوقت طويل، اعتقدت أن كُل هذا الجهد المبذول لأبني صلّة مع الثورة، كان لإني كنت مُنهكة من الحراك الفلسطيني والأفكار التي اختبرتها في التنظيم فيه واليه. واعتقدت أن كُل هذا الحُزن الذي فاض من قلبي، كان لأني كُنت على مفترق طرق أودّع فيها أشخاص طريقهم تفضي الى مزيداً من الوحشة. بعد الإنفجار، وجدّت نفسي أمام حُطام المدينة وحطامٌ نفسيّ. رأيت كيف مشت الناس الى مستشفى الجعيتاوي مُسرنمة وكانوا حقا ضحايا. تلاحقني هذه الصورة منذ ذلك الوقت، أحاول أن أفهم أذا كنا مشينا الى وسط المدينة في 17ت بنفس الطريقة، مُسرنمين ندخل الى زمن جديد في ساحة قديمة أفواجا أفواجا. في غرفتي المتناهية الصِّغر في باريس، يتضح لي بأني لم أكن مُنهكة، لم يكن تعباً الذي منعني من التواصل مع الثورة، كنت فقط أرى كُل شيء من وراء زجاج: أحسست إني مجبورة على تَصنُّع الفرح، أن أبالغ في النشوة الثورية. أن موجة من اصطناع الوئام كانت في جوهرها الرقيب الذي لم يكن يريد لأي تجربة أخرى أن تتمظهر وكانت تمنعني(نا) من الكلام. كأن اللحظة الثورية تمحي ما كان قبلا. كأن لا تاريخ لنا. فهمت أن الرقيب كان موجودا، يقوم بدور البطولة. أنظروا اليه\ه يناضل.
قدمت لي الثورة نظرة غريبة عن عملي في الحراك النسوي، لسنوات كثيرة اتخذت من الظِل مكانا لأُنظم وأفكّر واخلُق جسورا بين الناس والجماعات، لأكتشف أن الظِل تم فهمه من الزميلات اللبنانيات كأنه سُخرة، كأن عملي وجهدي ووقتي ورؤيتي هو ملكية عامة. أنا افهم الظل كموقع أساسي لصانعي وبنّائي الكيانات السياسية، أما صائدات الفرص، فيفترضن أن الظلّ هو موقع الضعف أو المُستضعف. رأيت خلال الثورة من يحصد ثمار طاقتي وشغفي في تنظيم حركة نسوية مُستقلة وفريدة، لموقع ما في الواجهة السياسية. هل حزنت لذلك؟ نعم. هل تعلّمت من ذلك؟ نعم. صائدات الفُرص كُن أيضا الرقيب، لكي تكنّ مرئيات، فرّغن كل ما هو غير لبناني من الحركة النسوية وأيضا التاريخ والحكايات، من غاب ومن حضر. الرقيب أيضا نجمات خام من فوقية لبنانية وسقوط أخلاقي غير مدوي لأنه متوقع.
في عام 2019 ، رأيت ما يُحتَمل أن يُصبح مُلهِما، يتحول الى مهزلة، رأيت ما كان يمكن تفاديه : طمس تام لضرورة خلق نظيم نسوي مُستقل. أكتب هذا، وأتذكر، شخصا، نسب الى نفسه أشياء لم يقم بها، استعمل انتماءات لمجموعات ساهم بتفتيتها عمدا، يقول في اجتماع ” أنا لست مهتما بالمحاسبة، أنا مهتما بالعدالة الاقتصادية”، لم أرد عليه\ا، وبقيت في حلقي جملة ” لو لم اضطر لتنظيف خراك\ي الموجود في العمل النسوي، لم أكن حتى سأتذكر اسمك او كان من الضروري أن أرى وجهك المذعور”. الرقيب يمنعنا أن نقول إن إساهم أشخاص في العمل السياسي المشترك أحياناً له رائحة قوية، فنغادرها.
أقول هذا، وليس لدي أي مشاعر وعواطف محددة تجاه كل تجربتي ومحاولتي الفاشلة في خلق حراك نسوي مستقل، ربما لأني ما زلت أفككها واحدة واحدة، ولأني أيضا افهمها بشكل تنظيمي وافهم جهود التيارات السياسية بالاستحواذ عليها. مُذهل كيف تُحاصر الحراكات التي تريد الشرعية النسوية والعمل النسوي والتمثيل النسوي النسويات، وتدفعهن الى اختصار حركتهن أو حراكهن ليتضمنهن. متى يكون الحراك النسوي ندا للحراكات الأخرى؟ متى يتعب الأب من لا جدوى توجيه الحراك النسوي؟
رغم الحظر الشامل في باريس، وخوفي الدائم من الشرطة، وعدم قدرتي على التسكع في شوارع المدينة، وعدم اتقاني للغة، وعدم وجود أي صديق لي هنا، وكل نقاش الإسلاموفوبيا والكراهية الذي يطغى على حزني، حين أفكر في تاريخ العودة الى بيروت، ارتعب. كيف تعود الى مكاناً موحشاً، ضيّقاً.
أمضيت ربيع وصيف كورونا في أعالي الجبال، هرباً من الرقيب في بيروت، لأفهم صوته وما يحُب وما يكره، وكيف ربما وغالبا من دون قصدي أغضبته.
في باريس، هناك أياما لم اعد أخاف فيها من الرقيب، أصبحت أراه، وجها مذعورا لا يريد أن يسمع شيئا أخر غير أصواته. وأيام ارتعب لأنّي اصمت عمدا عن حقيقة تحررني وتحرره معي. الرقيب لا يريد أن يسمع عن مساوئ التضامن مع مشروع ليلى وعنفه، الرقيب لا يريد أن ننتقد التنظيم الفلسطيني كما نحن نريد، الرقيب يريد أن ننتقد فلسطين كمان هو يريد، الرقيب ينزعج من فلسطين لأنه لا بريق لها، الرقيب يفكر أنها ارض بلا شعب أيضا. الرقيب أصبح ضحية تنمر شعب مُتخيل. الرقيب لا يريد لأي تجربة لا يختبرها هو أن تتوازى بالعيش معه. الرقيب هو مدير النقدية، هو حامي الثورة والمُختص بنقدها، موزّع الأدوار، انت ضحية، انت متنمر، انت مثقف، انت ممانع عميل، انت بقايا 14 اذار. انت صح، انت غلط. يحدد الرقيب المساحة التي تُعطى للمهاجرات والمهاجرين وعلى أي من دراجات سلّم الضحية التي يحرُس. الرقيب يتحسس من بعض الضحايا. الرقيب هو الضّحية الوحيدة. الرقيب يقرر ما هي العنصرية، الرقيب يحدد ما هو التضامن، الرقيب لديه تاريخ واحد أبيض واسود، الرقيب انتهت عنده الحرب الأهلية، لكن لم تنته عنده المشاعر الملتبسة المتعلقة بها، أه نسيت، الرقيب لا يحب الأحاسيس. الرقيب يريد أن يحاسب كل الناس إلا أصدقائه، الرقيب هو حبيب الشعب، ملك على جميع المتخاصمين في بيروت، يحدد أي عدوات شخصية وأيها سياسية. الرقيب لا يحب العواطف إلا إذا كانت عواطفه، لا يُحب أن يخطئ، الرقيب لا يحب سوى نفسه لأنه رقيب. تصفيق حاد، هتاف!
الرقيب يختصر ألمنا جميعا بجرحه، يورثنا جرحه – ولا جرحا كجرحه-. الرقيب أحيانا هاني شاكر، نسيانه صعب أكيد. الرقيب هو الهوس بالسيّطرة على التاريخ، الركض الى أول المظاهرات لضمان الوجود في اللحظات التاريخية التي لم نصنعها. الرقيب فوتوجونيك. الرقيب يجبرنا أن نضحك على نفس النكتة الذي يقولها منذ 1998. ثقل دم الرقيب قاتل.
الرقيب هو الكاتب\ة والممثل\ة والناشط\ة والباحث\ة والشاعر\ة والمثقف\ة والموسيقي\ة والروائي\ة والمؤلف\ة الكبير\ة العظيم\ة المبجّل\ة، لا يحب أن تسأله عن الإنتاج الثقافي وسط كل هذه الألقاب. الرقيب يتضايق من كثرة الأسئلة. الرقيب الرفيق الأعلى لكُلنا.
يقلقني بأني صرت أراه كأنه كمال شاتيلا يتمشى على كورنيش عن المريسة بين مرافقيه ويرّد على سلامات حارّة لم تُعط له، لم أعد أخافه كثيرا. مؤخرا أصبح الرقيب ممثلا متوسط الموهبة لا يكمل المشهد قبل أن يصفق له الجمهور فيورّطهم ويأخذ منهم غصباً عنهم اعترافا بأنه جيد، كل ما عليّ أن أفعله هو ألا أصفق وان اصبر على الشعور بالانزعاج. ألا تُصفق وسط تصفيق حاد، مأساة.
اجلس معه منذ أن وصلت الى هنا، أتمشى وأياه حين أستطيع في شوارع باريس واتركه أحيانا على ناصية ما وارجع الى البيت لأكتب، فأراه جالسا في البيت ينتظرني. لا أتكلم معه، لكننا في منزلي الصغير في باريس نتحضر لأم المعارك، أنا وهو. الرقيب صانع وحشة بيروت وملكها، يرتعب في باريس من كُل هذه المودّة في قلبي، فيظهر لي متوعداً، فأضحك واكتب وأضحك، يفقد أعصابه في منزلي، يخطب ويتوعد ويتألم ويُمثّل وينتظر أن اصفق له، أن أمدحه، لكني اكتب بيروت مكاناً للوحشة. بيروت مكاناً للوحشة!
[1] https://ontology.birzeit.edu/term/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AD%D8%B4%D8%A9