جردةٌ لعواطفَ قديمة


وُلدْتُ خارجَ حدودِ المُخيّم، أي مخيّم، في لحظةِ الولادةِ لا تكونُ تفاصيلُ هذا المكانِ المؤقتِ والدائمِ مهمة. السنةُ التي سبقَت ولادتي ارتكَبت إسرائيل مجزرةً على بعد 15 دقيقةٍ سيراً على الأقدام من المبنى الذي سيغدو بيتي. طغَت قصصُ المجزرةِ على طفولتي، وخفَّ الحديثُ عنها في بيتِنا وعائلتنِا ومحيطِنا إلى أن توقفَ تماماًً. عادتِ المجزرةُ كخلفيةٍٍ لمراهقتي التي أخذتْني لأتسكّعَ بين مخيّمين، شاتيلا ومار الياس، وأنا أتمرغُ في السؤال الوجودي لكلِّ مراهقة: مَن أنا؟

في منتصفِ التسعيناتِ كانَ الجيشُ السوري يقفُ على تخومِ مناطقَ ومبانيَ لا ينبغي علينا أنْ نقتربَ منها أو نستسهلَ الدخولَ إليها، بناءً عليه وتحديداً بسببِ ارتباكِ العلاقةِ بينَ الجيشِ السوري آنذاك والفلسطينيين الذين تمَّ تركُهم بعدَ رحيلِ المُنظّمةِ لقَدَرِهم، قرّر أبي ومعَه أمّي والكثيرُ مِن سكانِ طريق الجديدة الفلسطينيين، أن يرسموا حدوداً بينَ خارجِ المخيّمِ وداخلِ المخيم، كأنّما تفصلُ الحدودُ هذه بين شيئين متناقضَين. حينَ أصبحتُ أمضي وقتي في مخيّمِ شاتيلا عند عائلةٍ قرّرَتْ أنْ تسمحَ لي بالتنعّمِ بدفئها والتواجدِ معها واحتضانِ كُل أسئلتي الوجودية، لَمْ تتفهم عائلتي لِمَ أصرُّ على عبورِ الحدود هذه، فقدَتْ أمي اللبنانيةُ أعصابَها قليلاً حتى لو كانَت لا تزالُ تُنكِرُ هذا الأمرَ، وهكذا أصبحت شاتيلا ملاذاً مما اعتقدتُ أنه سطوة أهلي عليّ. كانت شاتيلا المكانَ الذي لمْ أكُنْ فيه مُختلفةً بشكلٍ جداً كبيرٍ عن باقي الناسِ، في شاتيلا كُنّا كُلنا نفهمُ كلماتٍ ولحظاتٍ ونظراتٍ مِن عَن خارجِ شاتيلا مِن دونِ أنْ نفسِّرَ لبعضِنا البعض ما نعني.

حينُ دخلتُ إلى مقبرةِ شهداءِ المجزرةِ لأوّل مرّة، كنتُ مع مجموعةٍ كبيرةٍ من الأجانبِ الذين ذرفوا الدّموعَ بصدقٍ مؤثّر، وكنتُ أضعُ الورودَ على البلاطِ ومن ثم صُرتُ أعطي الحزانى شالاتٍ طُبعَ عليها صورةٌ الأقصى وبعضُها طُبعَ عليها خريطةُ فلسطين. لم أبكِ رغمَ كلِّ طقوسِ الحزن، لكني فهمتُ في هذه اللحظةِ أنَّ الأحاديثَ التي اضمحلّتْ عن المجزرةِ في بيتِنا وعائلتِنا كانَت في الأصلِ تحكي عَنْ طرقِ نجاةِ أفرادِ عائلتِنا منها، ومنهم. وكيفَ رسمتِ المجزرةُ  في سرديتنِا عن أنفسِنا وعن المُخيّمِ الحدودَ الفاصلةَ بينَ ما يموتُ وما يحيا.

 كُنتُ رفيقةَ أبي في البيتِ بالمعنى السياسي، أكتبُ له وألقي على مسمعِه أشعاراً لأبو عمّار الذي عادلَت أخبارُه في بيتِنا مقامَ أبِ أمي، جدّي اللبناني الذي أتى من بيسان حيثُ كانَ مقيماً لسنواتٍ كثيرةٍ بسببِ النكبة. كنتُ ألقي هذه الأشعارَ أمامَ زوارِ أمي أيضاً، وكانوا يُسعدونَ بغرابةِ أطواري، ويستنبئون بأنني سأصبحُ مثلَ حنان عشراوي التي كانت في رأسي صديقةَ أبو  عمّار المفضلة.

 أصبحتُ أكتب لأبو عمّار أغنياتٍ بناء على ألحانٍ أسرقُها غيرَ آسفةٍ مِن أحمد دوغان وربيع الخولي. لا أدري متى بالتحديدِ لَم يعد مُستحِباً أنْ ألقىَ أغانيَ وأشعاراً لأبو   عمّار أو لفلسطين، لكنّي أذكرُ أني أصبحتُ فجأةً بمواجهةٍ مع أشياءَ لم يحضِّرْني أحدٌ نفسياً وعاطفياً على اجتيازِها. هناك لحظةٌ اضطررتُ كطفلةٍ أن أتواجهَ مع عواطفَ مُركّبةٍ لم يكُن الراشدون في حياتي قد تعاملوا معها،  هناك لحظةٌ ما، تمَّ تهذيبي فيها،  أوّلاً   كطفلةٍ وبناءً على المعاييرِ الأبويةِ في تدجينِنا بأدوارٍ اجتماعيةٍ فأصبحَ مِن غيرِ المحبّذِ لي أن أبديَ أي اهتمامٍ بالسياسةِ أو فلسطين، وثانياً كفلسطينيةٍ تتســاءلُ عن أمورٍ تمسُّ بحربٍ انتهَت بكثيرٍ مِن الحقائبِ النفسيةِ والعاطفيةِ  التي لمْ تُُحَلْ قَط والتي تكاثرَت لتُصبحَ ندوباً مفتوحةً بين الشعبَين والتي أحملُ وِزرَها مرتين، مرّةً كفلسطينيةٍ في لبنان، وثانياً كفلسطينيةٍ فاعلةٍ في حيّزٍ لبناني عامٍ يُصبِحُ أشدَّ عدائية تجاه الفلسطينيين كلَّ عام.

 تلكَ الحدودُ التي انطلقَت كخطٍ يفصُلُ بينَ المخيمِ وخارجِ المخيمِ تطوَّرَت لتصبِحَ أيضاً الخطَّ الذي نلقي بداخلِه كُلَّ تلكِ التوتراتِ التي تحصلُ بينَ الداخلِ والخارج، بينَ ما يُحكى وما يُسكَتُ عنه، وبينَ الماضي والمستقبل، تُصبِحُ الحدودُ إذاً الفاصلَ والمُجتَزأ والحاضر. أسألُ نفسيَ اليومَ لِمَ أحسُّ بالحدودِ هذه، ولِمَ أصطدمُ بها، ولِمَ لََمْ يعُد مِنَ السهلِ عبورُها كمنتميةٍ إلى داخلِ الحدودِ وخارجِها.

أنظرُ إلى فاعلينَ فلسطينيينَ في الحيِّزِ العامِ اللبناني وأفكّرُ إنْ كانوا يعبرونَ مثلي، بثقلٍ وتوترٍ عظيمين، بينَ العالمينِ والواقعيْن. وإن كانوا مثلي أيضاً، أحياناً، تُلحُّ عليهم عواطفُهم التي يُمنَعُ ظهورُها في الحيّزِ العامِ والاجتماعاتِ والتفاعلاتِ والتي تجدُ دائماً مَن يريدُ أنْ يُهذّبَها، أو مَن يصرُّ على أنها تجربةٌ لا يجدرُ بنا فحصُها وتفكيكُها ومقاومتُها، وهناك مَن يأتي دائماً  مُصراً  على  التطبيعِ معَ الأحوال، هكذا كنتُم وهكذا ستبقون. سكَنَت هذه العواطفُ الحدودَ بين كلَّ هذه العوالم في تجاربَ لمْ أُفلِحْ قطُّ في جمعِها سوية. لا أشكُّ بأنَّ الحدودَ أساسيةٌ كمكانٍ ورمزٍ للنسوياتِ ولا أستخدمُها بالمعنى الذي يرتبطُ بالمقاومةِ النسوية، بل أستخدمُها بمعناها كخطِ التقاءٍ بين شيئين والفاصلِ بينهما. الحدودُ طيّعةُ المعاني، تتحركُ في مكانِها، حيزٌ لكلَّ الخارجينَ من عوالمِهم؟ 

 تُلحٌّ عليّ اليومَ ذكرياتٌ عن فعلِ التهذيبِ الذي رافقَني مِنَ الطفولةِ الذي أرى ملامحَه في العنفِ اليومي الذي تختبرُه أيٌ منّا، ويحدِدُ السكوتُ عنه مِن عدمِه قدرةَ أيٍّ منّا على التواجدِ في الحيّزِ اللبناني سواءَ كانَ عامّاً أم خاصاً. ترتبكُ أمي وعائلةُ أمي كثيراً حينَ (كانَ) يتفوّهُ الفلسطينيون منّا في العائلةِ عمّا قيلَ لنا، عن تعبِنا أمامَ تلكَ اللحظةِ التي لا نعرفُ فيها أيَّ مهنٍ علينا أنْ نختار، عمّا تعتقد أمي أنه حوادثٌ فرديةٌ يوميةٌ مصيريةٌ نتعرّضُ لها، كأنما القدرَ نصَّ على ذلك لا القوانين المكتوبة عمداً وقصداً و غزارة في المنصّاتِ الإعلاميةِ التي تجرِّمُ الهويةَ قبلَ أنْ تجرِّمَ الفعل. تلحُّ على كلُّ هذه العواطفِ حبيسةِ الحدودِ التي لمْ أرِدْها أنْ تتسرّبَ إلى عوالمَ تكونُ فيها أيامي العاديةُ معاركَ ضروساً على كل شيء. هذا الارتباكُ يتحوّلُ تبريراً أحياناً لدرءِ المسؤوليةِ التي لَمْ يحمِّلْها أحدٌ لهم أصلاً، كانَ الصمتُ على ما قيل والسّرعةُ في تغييرِ الحديثِ الحدودَ التي تُصبِحُ فيها كل تجاربِنا سجوناً لا يفهمُها إلا شاغريها، وتستمرُ الحياةُ لكلِّ مَن لا يعيشُ داخلَ الحدودِ هذه.

في شاتيلا لم يفتَح شعبي ذراعَيْه بالأحضان، ولم يرُش الأرُزَ  لقدومي مِن خارجِ الحدودِ إلى داخله، لكني في نفسِ الوقتِ لمْ اضطَّرْ إلى تبريرِ وجودي في المخيم لأحد، لمْ اضطَّرْ لأن أشرحَ لأحدٍ لِمَ يتآكلُني القلقُ عن المُستقبل. ولكن رأيتُ وفهمتُ ووعيّتٌ بأني مِن ِخارجِ حدودِ المُخيّم، بين الأصدقاءِ في شاتيلا لمْ يلُمْني أحدٌ على “امتيازي” ولمْ يصلُبْني أحدٌ بسببه، زرعتٌ جذوراً لي في المخيم وحيثٌ كانت الحجّاتُ فيه ومن دونِ أن أضطرَّ لمزيدٍ من الشرحٍ، يفهمنَ أنَّ خارجَ الحدودِ امتيازاتٍ تترافقُ مع وحدّةٍ قاسية. فعلُ الانتماءِ الِأولِ لم يكُن عائلتي المباشرة، كانَ مخيمَ شاتيلا حيثُ كنتُ أفهمُ وأُُفْهَمٌ، كُنا كُلنا نتكلمُ عن الحدودِ التي رأيتُها واختبرتُها بوحدةٍ شديدةٍ خارجَ حدودِ المخيم، هناكَ أختبرتُ المشتركَ، ذلك الإحساسَ بأنكَ شاركتَ أحداً ما حلماً.  

 تلحُّ على اليومَ هذه العواطفُ للخروجِ مِنَ الحدودِ إلى عوالمي المختلفة، أنْ أحررَها وأحررَ نفسي معها. حلمتُ اليوم إني كنتُ على الحدودِ بين لبنان وفلسطين فأتَت صديقتي وخطفتْني مِنَ الحدودِ اللبنانية، أصبحتُ في فلسطين وكُنا نتمشى في مدينةٍ قديمةِ البناءِ والهندسةِ وزواريبُها ضيّقةٌ لكنَّ كلَّ البيوتِ فيها كانت مطليةً بالأبيضِ الناصع، علمتُ أنها قريبةٌ مِنَ البحر، وعلمتُ ذلك لأني رأيتُ سلطعوناً أحمرَ كبيراً يتمشّى على الرّصيف، حتى في الحلم، كانت شاتيلا شرطاً وترانزيت نحو عودتي الى مدينةٍ قريبةٍ مِنَ البحرِ (حيفا ربما)، كُنا نتمشى في الخفاءِ حتى لا يعلمَ أحدٌ أني اجتزتُ الحدودَ، في الحلمِ إما قلقتُ مِن عودتي إلى بيروت أو مِن عدمِها. حتى حينَ نعبرُ الحدودَ نتساءلُ عمَّ تركناه خلفَنا؟

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s