؟من يشفع لنا

الصورة لي، كانون الثاني 2021

 كانت السيدة تجلس دائما في الشرفة التي تقع على الطابق الأول مقابل تمثال ماريوسف، تشرب القهوة وتدخن وتحكي معه أحيانا، تصرخ وتستشيط غضباً اذا قاطع الحديث أحدا ما أتى أيضا ليتكلم مع ماريوسف، قديس حيّنا والسميع العليم الأول بكل مشاكلنا. تصرخ دائماً ” هووووو، شو مش شايفني عم احكي معو”. لم نعد نجرؤ على مدّ حديث معها أو التضرع بوردة أو إضاءة شمعة بعفوية. قدميّ مار يوسف لم تعودا لعموم مؤمنين حيّنا والزوّار من اتباعه، أصبح علينا أن ننتظر دورنا، ندفع صبرنا ولطفنا مع العجوز لقاء حديث خاص مع تمثال ماريوسف، شفيع شارعنا وكل المؤمنين بقدرته على سَماع وابل ووابل من المشاكل من دون كلل وملل.

 بعد الانفجار، اختفت السيدة تماماً، وعاد تمثال ماريوسف مِلّكا حراً لجميع زائريه، اختفت جميع مقتنيات شرفتها مرّة واحدة، وأغلقت جميع الشبابيك والأبواب. أصبح صمت حيّينا سؤالاً عنها لا يطرحه أحد. أحسب أن جزء منّي يريد أن يسأل عنها كسبيل لطرح أسئلة أخرى عن اختفاءات متكررة ومتكررة تحصل في بيروت، أماكن وأشخاص لم تَعد، ذهبت، اختفت. من كم يوم سألت أمي عن سناك أبو ربيع، الذي تذوّقت عنده أول هامبرجر في حياتي، كان عمري 15 سنة وكانت ثاني نهار العيد الكبير وكُنا قد انتفضنا على أمي ولم نسلّمها أي من العيديات، حينها كانت سندويشة الهمبرجر محشية بسلطة ملفوف بحامض، ويومها ارتديت جاكيت مخمل خيّطها أبي لي عليها شراشيب “رعاة البقر”. ولكنه اختفى فجأة، أصبح السناك سوبرماركت بين مئات الدكانين في الحيّ الواحد في بيروت. “اووووووه، سكّر من زمان ما اختفى، يبقى الاكل من عندو يجيب تسمم”، كلام أمي أحيانا غير دقيق، كل مطاعم الأكل بالنسبة اليها “بتجيب تسمم” إلا طعامها.

 مرّة، طلبت مني السيدة، أن ألتقط الأزهار التي يضعها الناس بين قدمي ماريوسف من على الأرض، راقبتني بمهنية عالية ووافقت على أدائي وطاعتي لها. سألتني عن الكلبة التي كانت معي، ففسرت لها إني أرعاها حتى نجد من يتبناها. “ييييي، ليكي إذا ضاعت منك احكي مع ماريوسف برجعلك ياها، هيك صار مع زوزو”، هكذا أذنت لي حارسة ماريوسف وجارته، أن احكي معه إن اعتزت شيء. أعطتني طريقا لنفوذه، صار لدي شفيعين، الخُضْر، حبيب قلب عائلتي وحارسها من النكبة الى اليوم، وماريوسف، شفيع حيّي وشارعي.

منذ أن اختفت، أمرّ من جانب شفيعي كل يوم، ولكني لا اطلب شيئا. وما الجدوى أن يكون لدي شفيع لا اطلب منه أشياءً ولا أُحدّثه عن ما يقلقني. أنا الكائن السياسي أصبحت أخاف أن انتهي مثل تلك السيدة، أن اطلب خدمات من ماريوسف! أن امشي اليه وأعطيه وردة، أن أضع يدي على قدميه واطلب مِنه أن يخفف من وطئ المجهول على ظهري، أن أحدثه عن الإختفاءات ويخبرني مثلاً بلغة القديسين عما حلّ بهم، وما أصبحوا. لما لا أستطيع أن انزل كل صباح من البيت الى تمثاله لأستعلم عن كيف تختفي الأشياء في بيروت وتبقى فقط في ذكريات فردية وخاصة؟ وبعدها لا تبقى. هل سيدلني على لحظة الاختفاء، لأحيّد عنها؟ هل هي توضيب الشنط، هل هي الوعود في الاكثار من الاتصالات؟ يا ماريوسف، ما سيحصل حين نختفى نحن أيضا، من سيسألك عنّا، من سيريد أن يحيّ ذكرى اشخاص ما برحوا يحاولون أن يجدوا ما يشفع للأخر أفعاله، ولم يجدوا من يشفع لهم أفعالهم، فهل تشفع لنا؟

Leave a Reply

Fill in your details below or click an icon to log in:

WordPress.com Logo

You are commenting using your WordPress.com account. Log Out /  Change )

Facebook photo

You are commenting using your Facebook account. Log Out /  Change )

Connecting to %s